ملاحظات حول دور القطاع العام في التنمية



المقالة الثانية:

هذه المقالة كتبت عام 2005 ولقد تركتها كما هي وكيفما كتبت آنذاك:

ملاحظات حول دور القطاع العام في التنمية.

 

نسخة غير قابلة للتداول والتوزيع ، ولايمكن استخدامها كمرجع.

14/5/2005

د. أحمد محمد جلالة.[1]

        ما يأتي هو مجموعة ملاحظات لاترقي إلى مستوى ورقة علمية أو حتى تقرير ، تم إعدادها في وقت ضيق علها تسهم ولو بقدر متواضع في إثارة النقاش حول موضوع بالغ الأهمية بالنسبة للاقتصاد الليبي في المرحلة الحالية. وربما سمح الوقت مستقبلاً في تطويرها وإعداد ورقة علمية. وكل ما ورد فيها يعبر عن رأي كاتبها ، ولا يعبر بالضرورة عن رأي أي جهة يعمل بها الكاتب.

أولاً: أساسيات: 

1.  الرؤيا المستقبلية: لايمكن للاقتصاد أن يسير في إتجاه غير محدد سلفاً. وتبعاً لذلك لابد من وضع رؤيا مستقبلية لما يجب أن يكون عليه الاقتصاد في المستقبل القريب والمتوسط والبعيد وفق الميز النسبية ، والمعطيات الطبيعية ، والامكانات البشرية ، والرصيد الاجتماعي له. فالسياسة الاقتصادية تعريفاً تهتم بالدرجة الأولى بتحديد غايات التنمية أولاً ، وأهداف القطاعات الاقتصادية المختلفة ثانياً ، وأغراض المؤسسات الاقتصادية أخيراً. ومن الضروري أن تكون هذه الغايات والأهداف والأغراض شديدة الوضوح. وإذا ما تم ذلك فإن المرحلة الثانية تحدد أفضل السبل أو الاستراتيجيات لبلوغ الأغراض ، والأهداف ، والغايات المحددة سلفاً ، وبهذا الترتيب. فالأغراض تصير وسائل لتحقيق الأهداف ، والاهداف وسائل لتحقيق الغايات. ومن البديهي أن أهمية ذلك كله تكمن في أن أي دولة مهما كبرت أو عظمت مواردها غير قادرة على القيام بكل شئ في نفس الوقت ، مما يحتم أن تكون سياساتها الاقتصادية إنتقائية. إن العملية كلها ترتكز على تحديد دور للاقتصاد في الاطار المحلي ، و الاطار الاقليمي ، والاطار الدولي عن طريق إنتقاء أو اختيار إتجاهات معينة للاقتصاد دون غيرها. إن أي نظام اقتصادي هو في الواقع جزء من منظومة عالمية كبيرة يتفاعل معها بطبيعة ديناميكية مستمرة ، وكلما صغُر حجم الاقتصاد بالنسبة لهـذه المنظومة ، صار أكثر تأثراً بها وغير قادر على التأثير فيها وحتى إن استطاع فبقدر ضئيل جداً يكبر بكبر الاقتصاد نسبياً. ناهيك عن طبيعة حدة صراع المصالح العالمي التي تـدفع بمستوى الصراع إلى حافة الفوضي ، لكنها لاتوقعه فيها!!

2.  اصلاح الذات: لايمكن للنظام الاقتصادي أن يكون جامداً. إن الطبيعة الديناميكية للنظام الاقتصادي على مستوياته المختلفة المحلية ، والاقليمية ، والدولية تتطلب وبالضرورة أن يحوى النظام في داخله آلية لاصلاح الذات تمكنه من الاستجابة وبالسرعة اللازمة للتغيرات المتجددة على المستويات الثلاثة. بالإضافة لذلك  فأن التجربة خير مقياس. بمعنى أن الغبار المتصاعد أثناء التنفيذ ، وتغير البيئة الاقتصادية المستمر يتطلب وجود مرونة كافية للتعديل والتصحيح كلما لزم الأمر. إن الخطط الاقتصادية ليست سلطاناً يجب الالتزام به في كل الأحوال ، بل هي في الواقع مؤشر عام لاتجاه معين ، أو طريق عريض يمكن التحرك فيه من جانب إلى أخر كلما لزم الأمر. وتبعاً لذلك فالتخطيط الاقتصادي عملية مستمرة غير متوقفة ، وتوقفها يعني ضمناً انزلاقه في مسارات تبتعد ـ بقدر كبُر أو صغُر ـ عن غاياته وأهدفه وأغراضه.

3.  النظرية الاقتصادية والنظام الاقتصادي: النظرية الاقتصادية ترتكز على مبادئ فلسفية كونية بطبيعتها بمعنى أنها صادقة في كل مكان. والنظريات تتنافس ولاتتفاعل ، فلكل نظرية أساسها الفلسفي واستنتاجاتها المنطقية الصادقة بصدق المقدمات. ورغم أن المقدمات قد تكون هي نفسها فإن عمليات التجريد المنطقي قد تقود إلى استنتاجات مختلفة. وبعكس النظريات الاقتصادية المتنافسة التي لاتتفاعل مع بعضها البعض ، فإن الأنظمة الاقتصادية بطبيعتها ديناميكية متفاعلة ومتداخلة بشكل كبير ، يؤثر بعضها على البعض إيجاباً وسلباً. من هذا المنطلق ربما خلُص المرء إلى أن النظرية الاقتصادية ـ أي كانت ـ وضع مثالي يسعى النظام الاقتصادي إلى الاقتراب منه قدر الامكان لكن لايمكنه الوصول اليه. وإذا ما صدق هذا القول فإن النظام الاقتصادي لابد له أن يتمتع بقدر كبير من المرونة للاستجابة للتغيرات في الظروف المحلية ، والاقليمية ، والدولية للحفاظ على المصالح الوطنية كما تقتضي الحاجة ، في نفس الوقت الذي يحاول فيه أن يقترب من النظرية. أو بصيغة أخرى منح النظام الاقتصادي المرونة الكافية ليتحرك حول الأسس النظرية في مراحل تطوره المختلفة. فقد تقتضي المصالح الوطنية في مرحلة معينة الابتعاد بقدر ما عن يسار أو يمين النظرية ، دون التخلي عن النظرية. ومثل ذلك مثل من يسير في الليل مسترشداً بضوء ثابت في مكان ما يتحرك عن يمينه مرة وعن يساره مرة أخرى كما تقتضي تضاريس المنطقة.

4.  كفاءة المؤسسات: لايمكن تفعيل دور النظام الاقتصادي إلا في وجود البنى المؤسسية القانونية والادارية والفنية الفعالة اللازمة لعمله. إن كفاءة هذه البنى المؤسسية هي التي ترسم الاطار الخارجي الذي يعمل بداخله النظام الاقتصادي ، وتحدد مستوى أداءه. ولعل المؤسسات القانونية تعتبر من أهم هذه البنى. وللمؤسسات القانونية شقين: الأول يتعلق بوضع قوانين وتشريعات اقتصادية عادلة تحمى الحقوق. ووضع القوانين والتشريعات الاقتصادية عملية ليست بالسهلة ولا اليسيرة ، فهي ترتبط من جانب بما يعنيه مفهوم العدل أساساً في بنية اجتماعية وثقافية ودينية معينة. كما أنها (أي القوانين والتشريعات) لابد أن تكون قابلة للتنفيذ بمعنى أن عوائد تطبيق القانون أكبر من تكاليف تنفيذه. هذا بالإضافة إلى أن ديناميكية النظام الاقتصادي وتفاعله مع الاقتصادات الأخرى ـ المُشار اليها فيما تقدم ـ تعطي بعداً إقليمياً ودولياً للقوانين والتشريعات لابد من مراعاته عند وضعها للحفاظ على مصالح الوطن والمواطن في خضم صراع المصالح على المستويين الاقليمي والدولي. والشق الثاني يرتبط بفعالية هذه القوانين والتشريعات من خلال أدوات التنفيذ. إن القوانين والتشريعات لاقيمة لها مهما كانت عادلة في غياب المؤسسات النزيهة القادرة على تطبيقها بدرجة عالية من الكفاءة. تبعاً لذلك فإن الخطوة الأولى في الاصلاح الاقتصادي ـ في أي دولة ـ تعني القضاء على الفساد القضائي والاداري وتصحيح مساره ، والاعتماد على أصحاب الكفاءة العلمية المحلية أو الخارجية إذا لزم الأمر.

5.  تحديد خطوط البداية: لايمكن البدء في مسيرة تصحيح مسارات الاقتصاد إنطلاقاً من خط بداية غير صحيح. إن تصور خطوط بداية تختلف عن الواقع لاعتبارات غير واقعية يعني مسبقاً الفشل في تحقيق الغايات ، والأهداف ، والأغراض. فلكل اقتصاد خصوصياته التي تميزه عن غيره وتمثل خط إنطلاق مختلف عن خطوط إنطلاق الأخرين ، وبذلك فنقل تجارب الأخرين ليس دائماً ملائم. إن السؤال الصحيح أهم كثيراً من الاجابة الصحيحة على سؤال غير صحيح!!! لذلك فإن تشخيص الواقع والاعتراف بكل إيجابياته وسلبياته ، وطرح الاسئلة الصحيحة ثم محاولة البحث عن إجابات لها أمر غاية في الأهمية من البداية لتحديد خطوط الانطلاق. ببساطة متناهية القائد العسكري الذي يتصور أن كفاءة جنوده وضباطه ـ قبل دخوله المعركة ـ أكبر مما هي عليه في الحقيقة ، سيمنى حتماً بالهزيمة.

6.  توفر الموارد البشرية المناسبة: لايمكن الاعتماد على موارد بشرية غير منافسة لمثيلاتها في الدول الأخرى. إن العامل الأساسي في إحداث النمو الاقتصادي توفر القدرات البشرية المؤهلة والقادرة على المنافسة. ولعله من الجائز القول أن أحد الأسباب المهمة في وجود الهوة الكبيرة بين الدول الأكثر تقدماً (الدول الصناعية)  والدول الأقل نمواً ، وجود فارق كبير في إنتاجية الفرد. وحتى ما يظهر للبعض على أنه تطور في الإنتاجية نتيجة التغيير التكنولوجي محصلته النهائية تطور إنتاجية الفرد. بناءً عليه فإن التدريب وإعادة التدريب على مستوى متقدم وبشكل مستمر ضروري في أي دولة نامية إذا أرادت اللحاق بركب الدول الأكثر تقدماً. ليس هذا فقط ولكن من الضروري أن يكون التطور في إنتاجية الفرد في الدولة النامية أكبر من تطوره في الدول الأكثر تقدماً لتتمكن من اللحاق وردم الهوة. إن تحقيق الدولة النامية لمستوى إنتاجية مساوٍ للدول المتقدمة سيحافظ على حجم الهوة بين الاثنين كما هو عليه. أما إذا إنخفض عن ذلك فإن حجم الهوة سيزداد.

 

إن غياب بعض هذه الأساسيات في أي نظام اقتصادي يقود بالضرورة إلى اقتصاد فوضي لايمكن له أن يحقق معدلات نمو ولو متواضعة ، وحتى وإن حدث أن ظهرت بعض الايجابيات فهي نتاج الصدفة أو التأثيرات العرضية للاقتصادات الأخرى عليه.

 

ثانياً: اقتصاد السوق والقطاع العام:

    قبل الحديث عن ضرورة وجود القطاع العام من عدمه ، لابد من تحديد معنى القطاع العام. القطاع العام لايعني ملكية الدولة للنشاطات الاقتصادية وإدارتها فقط بل يتعداه لاكثر من ذلك. إنه يعني ملكية الدولة واحتكارها للنشاطات الاقتصادية. وتبعاً لذلك فإن القطاع العام مرادف لاحتكار الدولة للنشاط الاقتصادي. وبالتالي فعيوب القطاع العام ناتجة من كونه إحتكاراً. وسلبيات الاحتكار واضحة في كتب أساسيات الاقتصاد. لكن الأهم نتائج التجربة العملية في كثير من الدول النامية خلال الأربع عقود الماضية أو يزيد التي بينت أن احتكار الدولة للنشاط الاقتصادي أدى إلى إنخفاض الجودة ، وارتفاع تكاليف الانتاج ، وتكدس العمالة …الخ. وحيث أن الدولة تقوم من جانب أخر بتسعير منتجات القطاع العام عادة بمستوى يقل عن تكاليف الإنتاج ، فإن الدولة وجدت نفسها ملزمة بدعم مؤسسات القطاع العام من خزينة الدولة بمعدلات متزايدة بمرور الزمن مما شكل عامل استنزاف للموارد المالية للدولة. والواقع أن الكثير من الدول وجدت نفسها عاجزة عن تمويل نشاطات القطاع العام بعد فترة من الزمن. ومن البديهي أن مبالغ الدعم هذه كان من الممكن أن تستخدم في نشاطات اقتصادية وتنموية أخرى تعود بالفائدة على المجتمع ككل. كما رافق تطور نمو القطاع العام الفساد المالي والاداري.

 

إذاً القضية ليست قضية حقوق ملكية بقدر ما هي قضية وجود بيئة تنافسية من عدمه ، وسلبيات القطاع العام مرتبطة بالاحتكار وليس بحق الملكية!!! والحديث عن الخوصصة أو الخصخصة كيفما صح التعريب لامعنى له إذا كان الهدف تخلص الدولة من عبء القطاع العام أو نقل ملكيته للقطاع الخاص. إن احتكار الدولة أرحم كثيراً بالنسبة للمواطن من احتكار القطاع الخاص!! وهنا يظهر جلياً الخلط بين الأهداف والوسائل. من المفترض أن يكون الهدف خلق بيئة تنافسية ، وأحد الوسائل الممكنة لتحقيق ذلك الخوصصة. بمعنى أن الخوصصة وسيلة أو أحد الوسائل وليست غاية في حد ذاتها. وإذا كان الحال كذلك فإن الغاية يجب أن تكون خلق بيئة تنافسية يمكن فيها رفع الانتاجية ، وخفض التكاليف ، واستيعاب قوى العمل …الخ. هذا يعني أن الخوصصة مرحلة متأخرة تأتي بعد خلق البيئة التنافسية وليس قبلها.

 

        وظهور القطاع العام في الدول النامية كان بغرض الاصلاح ، ففي كثيرٍ من الدول النامية وبعد حصولها على الاستقلال ساد فكر اقتصادي يركز على احلال الواردات بدل العمل على تطوير صناعات للتصدير ، ومحاولة احداث نمو اقتصادي سريع الوتيرة بغرض اللحاق بالدول الأكثر تقدماً. خصوصاً وأن كثيراً من هذه الدول كانت تعاني من قطاع خاص ضعيف وغير قادر على القيام باستثمارات صناعية ضخمة وكبيرة. كما ساد في تلك الحقبة من الزمن التفكير في الاستقلال الاقتصادي والانفصال عن التبعية الاقتصادية والسياسية للدول الاوربية التي كانت مستعمِرة. نتيجة لهذه الظروف عُومل القطاع العام على أنه القاعدة وليس الاستثناء ، وتدخلت الدول في عمليات الانتاج والتوزيع بشكل مباشر. في تلك الفترة الزمنية لم تكن النتائج السلبية المشار اليها فيما تقدم معروفة ولامتوقعة. وبظهور هذه النتائج السلبية صار من الضروري إعادة التفكير في قضية تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي برمته. لكنه وللاسف فإن طريقة التفكير إنحازت لجانب متطرف ، دعمته دعوات الهيئات والمؤسسات الدولية في عقود العولمة الأخيرة لخروج الدولة كلياً من النشاط الاقتصادي في الدول النامية. ليس هذا فقط ولكن تعدت هذه الدعوات ذلك لتفرض شروط ربطتها بالقروض والمساعدات للدول الفقيرة. وفي خضم الحملات الاعلامية الشديدة لم تعد الرؤية واضحة ، وهرول الكثير من اصحاب الفكر ومن بينهم بعض علماء الاقتصاد إلى تبرير هذا الموقف المتطرف. وبدلاً من محاولة تحديد الأخطاء ومحاولة اصلاحها وطرح الأسئلة الصحيحة ، اتجه الحديث إلى تخصيص كل شئ ورفض كل ما له علاقة بالقطاع العام. ونتيجة لذلك اختلطت الأهداف والوسائل. ولهذا الموقف المتطرف اثاره السلبية التي من الممكن أن تحيد بالتنمية والنمو الاقتصادي عن مساره الصحيح.

 

        وتسليماً بأن نتائج البيئة التنافسية أفضل بكثير من الاحتكار من حيث تزايد معدلات الإنتاجية ، وخفض التكاليف ، وتخصيص الموارد …الخ ، يظل من المهم معرفة دور الدولة في عمليات النشاط الاقتصادي. عند هذا المستوى يمكن طرح الأسئلة الثلاثة التالية:

 

1.    هل من الممكن قيام بيئة تنافسية في كل النشاطات الاقتصادية؟

2.    إذا ما كان القطاع العام في بعض الأنشطة ضرورياً ، فما هي أهم المشاكل المرتبطة به ، وكيف يمكن تحسين أداءه؟

3.    كيف يمكن خلق بيئة تنافسية ، وما هي شروط ضمان نجاحها؟

 

البيئة التنافسية مرادف لقيام اقتصاد سوق ، ومن غير الممكن قيام سوق في كل الأنشطة الاقتصادية مما يستدعي النظر إلى بديل أخر. والتجربة العملية في كثير من الدول المتقدمة والنامية على حدٍ سواء تشير إلى القطاع العام على أنه البديل. وعلى العموم يمكن تحديد ثلاث حالات لايمكن فيها قيام سوق تنافسية:

1. الاحتكار الطبيعي: تعرف بعض الأنشطة الاقتصادية على أنها احتكاراً طبيعياً إذا كان متوسط التكاليف ينخفض باستمرار بتزايد حجم الانتاج ، وعادة مايضرب مثل إنتاج وتوزيع الكهرباء ، أو خدمات البريد والهاتف …الخ كمثال لهذا النوع من النشاطات التي لايمكن قيام سوق تنافسية فيها. بمعنى أخر قيام سوق تنافسية في مثل هذه النشاطات لايرقى لمستوى الكفاءة الاقتصادية الناتجة عن وجود شركة واحدة كبيرة. وحتى إن قامت مثل هذه السوق فإنها سوف تتحول بمرور الزمن إلى احتكار نتيجة هيمنة واحدة من الشركات الأكثر كفاءة. لذلك فإن التعامل مع هذه القضية كان إما بالسماح لشركة واحدة مملوكة للقطاع الخاص باحتكار السوق ، وقيام الدولة بوضع تسعيرة لمنتجات هذه الشركة ؛ أو بملكية وادارة الشركة من قبل القطاع العام. والأخير هو الأكثر شيوعاً في عالم اليوم.

 

2. إخفاق السوق: قيام سوق تنافسية في بعض الأنشطة الاقتصادية غير ممكن اساساً كالمطارات والموانئ ، وإلى حد ما شق الطرق والجسور ..الخ. إذ لايعقل قيام شركات خاصة بامتلاك عدد كبير من المطارات حول مدينة واحدة أو موانئ أو طرق. هذا الأمر يستدعي ملكية القطاع العام لهذه الأنشطة ، ناهيك عن ارتباطها بأمن البلاد واستقلالها.

 

3. السلع العامة: توجد بعض السلع والخدمات التي لا يمكن حرمان أي شخص منها وبذلك فإن قيام السوق التنافسية فيها غير ممكن. وعدم القدرة على الحرمان قد يكون ناتجاً من إستحالة تنفيذه عملياً مثل الدفاع والأمن العام ؛ أو لاعتبارات أخلاقية كالعناية الصحية والتعليم. فالعناية الصحية والتعليم حقوق لايمكن حرمان أي مواطن منها لعدم رغبته في دفع المصاريف حتى ولو كان قادراً. فما ذنب طفل قاصر لو كان والديه غير مهتمين بتعليمه أو توفير العناية الصحية الضرورية له!!!!؟ أو أنهما يفضلان استخدام الأموال في استخدامات أخرى غير التعليم والرعاية الصحية لابنائهم. إن التعليم والرعاية الصحية حق للمواطن وليست هبة أو منة أو أمر خاضع لاختيار الوالدين. إنه أمر يمس مستقبل البلاد وهو بذلك قضية إجتماعية وليست خاصة. فبناء الموارد البشرية جزء مهم من التنمية ، ولايمكن أن تتم التنمية أو حتى النمو الاقتصادي إذا لم تتوفر الموارد البشرية المؤهلة والمدربة. فالإنسان هو غاية التنمية ووسيلتها الرئيسية. ولعله من الممكن قيام سوق تنافسية في بعض هذه المجالات لكن ليست كبديل للقطاع العام وإنما كمكمل له لمن أراد وله القدرة.

 

        إذاً القطاع العام ضروري كاستثناء نظراً لاعتبارات تتعلق بعدم إمكانية قيام سوق تنافسية في الحالات الثلاث المشار اليها فيما تقدم. ولقضية ضرورات القطاع العام كاستثناء بعد أخر. فعمليات النمو الاقتصادي في حد ذاتها تتطلب مستوى معين من التنمية متمثلاً في توفر قدر مناسب من خدمات البنى الأساسية ، ونظام تعليم وتدريب فعال ، ورعاية صحية مناسبة …الخ. وعدم توفر هذه الضرورات بالقدر المطلوب يعني ضمناً استحالة تحقيق معدلات عالية من النمو الاقتصادي والتخبط في مصيدة التخلف دون نقطة البداية. إضافة لذلك فإن الكثير من مشاريع القطاع العام المشار اليها فيما تقدم مثل المطارات ، والموانئ ، والطرق ، ومحطات توليد الكهرباء وشبكات توزيعه تحتاج إلى استثمارات ضخمة يعجز في أغلب الدول النامية ـ ومن بينها ليبيا ـ القطاع الخاص عن توفيرها.

 

        إذاً من واجب الدولة في ليبيا كونها دولة نامية تعتمد على عوائد النفط المملوكة كلياً للمجتمع تبني سياسات اقتصادية تعتمد على القطاع العام في توفير البنى الأساسية ، والتعليم المناسب ، والرعاية الصحية ، والأمن العام ، والدفاع. هذه النشاطات الاقتصادية هي نشاطات تنموية ، ومن واجب الدولة النامية القيام بها. بصيغة أكثر وضوحاً ، استخدام العوائد النفطية المملوكة للمجتمع في تطوير النشاطات الاقتصادية المشار اليها عاليه. ولايقبل على الاطلاق استبعاد أو حرمان أي ليبي من استخدام هذه الممتلكات العامة فهو مالك لها اصلاً!!! فالطريق العام ، على سبيل المثال ، تم شقه باستخدام عوائد النفط ولايمكن فرض رسوم على من يملكه  لاستخدامه. أما بالنسبة لصيانة هذه الطريق فمن الواجب استخدام رسوم التجول التي تتم جبايتها من كل سيارة تسير على الطريق سنوياً في أغراض الصيانة. كذلك الحال بالنسبة للكهرباء ، والبريد ، والتعليم ، والصحة ....الخ.

 

        ولكن كيف يمكن تلافي المشاكل الناجمة عن إحتكار الدولة أو القطاع العام لبعض هذه النشاطات مثل الكهرباء والبريد ، خصوصاً إرتفاع التكاليف ، وإنخفاض الإنتاجية؟ لعله من الواجب التذكير بإن هذه النشاطات استثناء ، والتعامل مع بعض الحالات الاستثنائية له طبيعته الخاصة ، واسهل نسبياً من التعامل مع العموم.

 

        الواقع أن الطاقة لها أهميتها الخاصة في الاقتصاد الليبي ، فهي تكاد تكون الميزة النسبية الوحيدة له التي تمكنه من اكتساب قدرة تنافسية في بقية النشاطات الاقتصادية مما يستلزم الحفاظ على سعره منخفضاً. فرفع أسعار الطاقة سيكون له أثر سلبي على تطور القدرة التنافسية للاقتصاد الليبي مستقبلاً خصوصاً في مجالات الصناعة والخدمات على الأقل في المدى القريب والمدى المتوسط. وبذلك فإن العمل يجب أن يكون دائماً على محاولة خفض التكاليف وليس رفع الأسعار.

 

        أول أسباب ارتفاع التكاليف وانخفاض الانتاجية الذي يجب النظر اليه تكدس العمالة. فالعمالة الزائدة ترفع تكلفة إنتاج الوحدة من جهة ، وتخفض من إنتاجية الفرد من جهة ثانية. والعلاج يكمن في تخفيض العمالة للحد المناسب ، وإعادة تدريب العاملين. ورغم أنه من السهل قول هذا ، لكن العمل أصعب من ذلك بكثير لاسباب عديدة ، أهمها:

 

·   أنه لايمكن الالقاء بعدد كبير من العاملين في الشارع دون التفكير في إيجاد مواطن شغل بديلة لهم. وإيجاد مواطن شغل جديدة يرتبط بنمو الانشطة الاقتصادية الأخرى ، ويتطلب استثمارات جديدة. وهذه الاجراءات تأخذ وقتاً ليس بالقصير.

·   أن الأمر يتطلب ـ فيما يتطلبه ـ تعديل وتصحيح قوانين العمل وتشريعاته بحيث يصبح القطاع الخاص مساوٍ للقطاع العام في المزايا غير المادية مثل التقاعد ، وضمان البقاء في الوظيفة ...الخ. وهذا أيضاً يتطلب وقتاً وجهداً كبيرين.

·   الحاجة للقضاء على الفساد المالي والاداري بتطوير كفاءة اجهزة الرقابة المالية والادارية على هذه الشركات. وهذا يعني الرفع من كفاءة الخدمات العامة في مؤسسات الدولة الرقابية ، وتفعيل دورها في معاقبة المخالفين عن طريق نظام القضاء. وهذه بدورها تتطلب الكثير من الوقت والجهد لضمان معاقبة المذنبين ، ومكافأة الذين احسنوا.

 

أما السبب الثاني فإنه يكمن في أن القدرات البشرية الفنية غير مدربة التدريب الكافي للقيام بالأعمال المطلوبة منها. والواقع أن مايبدوا على أنه بطالة بين لليبيين ربما عكس عدم قدرتهم على منافسة العمالة الوافدة. وعدم القدرة على المنافسة هذا قد يكون ناتجاً من بعض أو كل العوامل الأتية:

1.    تعالي الليبيين على القيام ببعض الأعمال لاعتبارات إجتماعية.

2.    وجود عوائق تشريعية يفضل على اساسها اصحاب العمل تشغيل العمالة الوافدة على حساب العمالة المحلية.

3.  تدني مستوى تدريب الليبيين ، وهذا الأهم والذي ربما نتج عن شهادات كاذبة على كل المستويات الفنية والعلمية حتى العالية منها. بمعنى أن هناك من يحمل شهادة تفيد بإنه فني في مجال ميكانيكا السيارات أو الكهرباء على سبيل المثال ، وهو في الوقع غير قادر على القيام بالعمل. فمعاهد التدريب المهني التي منحت شهادات لافراد دُرِبوا نظرياً ومن قبل مدربين غير أكِفاء أنتجت مجموعة من حاملي الشهادات غير القادرين على منافسة العمالة الواقدة. هذا القول ينسحب أيضاً على بعض الخريجين وحملة الشهادات العليا حتى الدكتوراة!!! والتعامل مع هذه القضية غاية في الأهمية وبالسرعة الممكنة. وعلاجها لايكمن في استثمارات جديدة وإيجاد مواطن شغل جديدة ، وإنما في إعادة التدريب والتدريب أثناء العمل بواسطة مدربين أكٍفاء حتى ولو استدعى الأمر جلبهم من الخارج وفق معايير صحيح.

 

أذاً الأمر يتطلب إعادة التدريب بشكل مكثف ليس للملاكات الفنية فقط ، وإنما الادارية والمحاسبية في مؤسسات القطاع العام القائمة أو التي يتقرر الحفاظ عليها. والجدير بالذكر في هذا المقام ، أن التدريب عملية مستمرة غير متوقفة إذا كان الهدف رفع إنتاجية الفرد في أي مجال كان.

 

        والسبب الثالث يرجع إلى أن التسعيرة توضع من مؤسسات القطاع العام المعنية أو بناءً على اقتراح منها. وإدارة هذه المؤسسات سوف تراعي مصالح المؤسسة لاسباب مظهرية في أغلب الأحيان ، وتحاول أن تغطي العيوب من خلال رفع تكلفة إنتاج الوحدة. لذلك فإنه من الواجب وضع التسعيرة من قبل الدولة وتحديداً من جهات أخرى تابعة للدولة خارج المؤسسات المنتجة وفق ما يجب أن تكون عليه تكلفة الانتاج وليس وفق تكلفة الانتاج في ظل الاختلالات السائدة داخل المؤسسة.

 

        هذه بعض أهم المشاكل السائدة في معظم مؤسسات القطاع العام بدرجة عالية من التعميم وليس كلها ، واقتراحات متواضعة لحلها فيما توفر من وقت ضيق لاعداد هذه الملاحظات لايتعدى الأيام القليلة. والموضوع في حاجة لدراسات معمقة تتطلب زمناً طويلاً ودراسات ميدانية وفرق عمل متخصصة.

 

        الخلاصة إذاً القطاع العام ضروري ، علـى الأقل ، في مجالات البنى الأساسية ، وتوفير التعليم المناسب ، وتقديم الخدمات الصحية الضرورية ، والدفاع والأمن العام. وتنبع الضرورة من أن أغلب هذه النشاطات نشاطات تنموية لابد من توفر حد أدنى منها لإحداث النمو الاقتصادي ، ويجب أن يتم تمويلها من الميزانية العامة. لكنه من الضروري التأكيد على أن القطاع العام يمثل الاستثناء نظراً لاستحالة قيام بيئة تنافسية في هذه المجالات.

 

        ماذا إذاً عن البيئة التنافسية أو اقتصاد السوق في بقية الأنشطة الاقتصادية؟

 

        إن نظام السوق ـ إذا ما أجيد تنظيمه ـ قادر على الرفع من الانتاجية وتطورها خلال الزمن في الاقتصاد ، في نفس الوقت الذي يقلل فيه بدرجة ما من العدالة في توزيع الدخل. ويصير السؤال إذاً كيف يمكن للدولة أن تسمح للسوق بالعمل لتحقيق تطور مستمر في الانتاجية في نفس الوقت الذي تحافظ فيه على العدالة في توزيع الدخل؟ الأمر يتطلب تطوير مؤسسات وقوانين لحماية المنافسة ، ومنع الاحتكار. إن الخطر على تحقيق المنافسة الشريفة في الداخل يرجع إلى مقدرة بعض الجهات (تابعة للدولة أو خاصة) على منع الأخرين من الدخول إلى سوق نفس النشاط أو الخروج منه. ومن البديهي أن عوائق المنافسة الشريفة التي ممكن أن تنتج عن الدولة هي في الواقع نتاج التشريعات والقوانين والتنظيمات التي تجعل من دخول السوق أمراً قريب من المستحيل سواء بالمنع المباشر أو ارتفاع تكلفة الدخول أو الخروج من النشاط الاقتصادي بما في ذلك تكلفة الوقت اللازم لإتمام الاجراءات ، أو أن تسمح التشريعات والقوانين لفئة معينة ذات نفوذ بالتحكم في السوق. هذا بالاضافة إلى دور الدولة الرئيسي في منع أسعار السلع والخدمات المنتجة من قبل احتكارات طبيعية من الارتفاع بشكل كبير بعيداً عن تكاليف الانتاج. أما العوائق التي من الممكن أن تنتج عن القطاع الخاص نفسه فهي عديدة أكثرها شيوعاً الاحتكار ، واحتكار القلة سواء في الانتاج أو الاستيراد. كما أن تدني جودة البنى التحتية قد يكون سبباً في خلق عوائق تمنع دخول الأخرين للسوق في منطقة معينة.

 

        هذه الأمور تحتم تطوير مؤسسات لحماية المنافسة وقوانين وتشريعات لضمان المنافسة الشريفة في السوق. والبناء المؤسسي هذا وتبعيته أمر غاية في التعقيد ويتطلب دراسة جادة لمنع استغلال هذه القوانين والتشريعات من قبل فئات معينة ذات نفوذ لمصالحها الخاصة.

 

إذاً لا مناص من تدخل الدولة في تنظيم السوق بغرض تعزيز نتائجه الايجابية وضمان تحقيق عدالة أكبر في توزيع الدخل. وتدخل الدولة بهذا الشكل لا يعني ، على الاطلاق ، قيام الدولة بنشاطات الانتاج والاستيراد والتوزيع. إنه دور أكبر من ذلك بكثير يتمركز حول ضمان المنافسة الشريفة ، وحماية أمن الوطن وسلامة المواطن ، وتحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية.

 

هذا التدخل يعتمد بشكل كبير على رؤيا مستقبلية لما سيكون عليه الاقتصاد الليبي ، واختيار نشاط اقتصادي أو أكثر ليكون قطاعاً قائداً. ومن البديهي وجوب أن يكون لهذا القطاع القائد تأثير إيجابي واسع على بقية القطاعات الاقتصادية المختلفة من خلال ترابطه معها. كما يجب أن تكون نشاطات القطاع القائد متوافقة والمزايا النسبية للبلاد من خلال توافقها مع المعطيات الطبيعية والقدرات البشرية المتوفرة كماً ونوعاً.

 

        فالرؤيا المستقبلية إذاً ـ تعني فيما تعنيه ـ تبني سياسات اقتصادية إنتقائية أو أختيار نشاط اقتصادي أو اكثر كنشاطات قائدة لحركة النمو الاقتصادي ، وأياً كانت هذه الأنشطة ، فإن هناك اساسيات أو حد أدنى من التنمية لابد من توفره أو العمل علـى تطويره وبسرعة مثل البنى الأساسية ، والتعليم والتدريب ، وخدمات المصارف ، والتأمين ….الخ. وأهم هذه العوامل على الاطلاق إعداد الكوادر البشرية العلمية والفنية المؤهلة القادرة على منافسة العمالة الوافدة من جانب. أما من الجانب الأخر فإنه لابد أن تكون هذه القدرات البشرية قادرة على منافسة مثيلاتها في الدول الأخرى لتتمكن ليبيا من تصدير منتجاتها إلى أسواق مستهدفة. إن عدم توفر هذه الضرورات بالقدر المطلوب يعني ضمناً استحالة تحقيق معدلات عالية من النمو الاقتصادي والتخبط في مصيدة التخلف دون نقطة البداية.

 

        إذاً والحالة هذه ، لابد للدولة من السعي إلى الوصول إلى حد أدنى من خدمات البنية الأساسية ، وتطويرنظام تعليم وتدريب فعال ، ورعاية صحية مناسبة. في الدول الفقيرة تسعي الدولة عادة إلى تمويل هذه النشاطات طريق القروض والمساعدات الأجنبية. أما في ليبيا ، فإن توفر عوائد النفط المملوكة إجتماعياً ، وبغرض الاسراع في توفير هذه الجوانب لابد للدولة من استخدام عوائد النفط لتحقيق ذلك. إن عمليات النمو الاقتصادي والتنمية رهينة بوصول المجتمع إلى حد أدنى من الكفاءة ، وإلا فإن التخلف سيستمر بتغذية التخلف. ونتيجة ذلك كله التقهقر عن ركب الدول المتقدمة وليس محاولة اللحاق بها. ورغم أن النقاش إنصب فيما تقدم على القطاع العام وضروراته ، غير أن القول نفسه ينسحب على كثير من مؤسسات الدولة الأخرى. فبالقدر الذي تهـم فيه كفاءة القطاع العام فـي بعض النشاطات كاستثناء ، تهم أيضاً ـ على سبيل المثال ـ الكفاءة في تحصيل الضرائب ، وعدالة النظام الضريبي ، وقس على ذلك بقية مؤسسات الدولة الادارية الخدمية.

 

        مما تقدم يظهر دور الدولة ودور القطاع الخاص جلياً ، وسبل تمويل مشاريع القطاع العام على أنها مشاريع تنموية. ليس هذا فقط لكنه من الواجب التأكيد على أن الدولة ملزمة برسم سياسات اقتصادية إنتقائية وفق رؤيا مستقبلية واضحة المعالم تتوافق والمعطيات الطبيعية للبلاد ومميزاتها النسبية وإمكاناتها وطاقاتها البشرية المتوفرة والممكن تكوينها مستقبلاً. هذا الأمر يتطلب دراساتٍ معمقة ، وجهداً كبيراً ووقتاً ليس بالقصير ، وكثيراً من الجدية. إنه غير خاضع للرأي الشخصي حتى ولو كان متخصصاً.

 





[1] مستشار اقتصادي بمركز البحوث الصناعية ، وأستاذ بقسم الاقتصاد ـ أكاديمية الدراسات العليا ـ طرابلس.