الخوف (2)

احمد محمد جلالة

استيقظ امحمد قبيل الفجر بقليل يتصبب عرقاً ويتنفس بصعوبة ... لقد كان يحاول أن يصرخ لكنه لم يستطع ذلك ... استيقظ  مرعوباً يملاءه الخوف من ذلك الكابوس الذي لايفارقه ابداً ... كل صباح يستيقظ على نفس الكابوس بكامل تفاصيله......

جلس في فراشه لايدري لكم من الوقت .... لم يعد يقرأ القاتحة والمعوذتين كما كان يفعل في الماضي ...لم تساعده على التخلص من الكابوس..... سمع الآذان... حاول قدر الامكان أن يتحرك من مكانه ويتوضأ ويصلي لكنه لم يستطع فالجو بارد جداً في هذا الوقت من العام وفي غرفته الجو أكثر برودة رغم أن بامكانه ان يستفيد من دفاية الزيت القديمة الموجودة بالغرفة إلا أنه مقتنع تمام الاقتناع بانها مضرة وقد تقضي على حياته فالدفاية تضر في كل الأحوال...بالاضافة لذلك لاتوجد مياه ساخنة .... حاول أن يعاود النوم تحت عدد كبير من الأغطية القديمة لكنه لم يستطع أن يغلق جفنيه رغم التعب الشديد فقد سهر الليلة الماضية.

لايدري كيف ولكنه استيقظ بعد فترة من الزمن ونظر الى الساعة لقد كانت الثامنة إلا ربعاً ولم يبقى على موعدالعمل إلا ربع ساعة .... ومديره لايسمح بالتاخر أكثير من عشر دقاق أمامه فقط خمسة وعشرون دقيقة لاغير ..... قفز من فراشه وبدل ملابسه بالسرعة الممكنة ..... ودون أن يفطر أو يغتسل اسرع إلى "نعناعة" المازدا 323 القديمة ذات اللون الأخضر يملاءه الخوف أن لا تشتغل قفز إلى السيارة وادار المفتاح وهو يرتعد لايعرف من الخوف أو من البرد وفجاءة دار المحرك واشتغلت السيارة....تحركت السيارة والدخان يملاء الطريق وراءه خاف أن توقفه شرطة المرور لكنه تذكر أنهم لايشتغلون في هذا الوقت من الصباح إلا إذا قاده حظه السئ إلى رئيس العرفاء "عجيلي" على دراجته النارية الذي يترصد به وامثاله في  الصباح وفي أماكن مختلفة .... رئيس عرفاء متخصص في كل من يملك سيارة قديمة وفي كل إنسان فقير "وحيطه قصير" ، لم يره في يوم من الايام يوقف واحد من أصحاب السيارات الفخمة والفارهة.

سار في الطرقات الجانبية قدر ما استطاع .... فقد كان على قناعة أن رئيس العرفاء "عجيلي" يترصد به صباح اليوم وقرر عدم المخاطرة رغم الخوف الشديد

لم يكن الخوف من رئيس العرفاء هو الوحيد في هذه اللحظة فمؤشر البنزين يشير إلى قرب فراغ خزان الوقود والطرقات الجانبية أطول قليلاً وربما تستهلك وقوداً أكثر ...... عندما اقترب من مكان عمله وخوفاً من ولوج الشارع الرئيسي اوقف سيارته في طريق جانبي.... أمامه بالضبط سبع دقائق يستطيع أن يصل قبل أن يرفع مديره سجل الحضور والانصراف. سار مسرعاً والخوف يملاءه وصل بالضبط عند الثامنة والدقيقة العاشرة .... نظر اليه مديره من تحت نظاراته نظرة رجل متحكم وكأنه يريد أن يبصق عليه أو أن يضربه ... الغريب كأنه يحسده... يحسدني على ماذا ياحسرة.؟ هكذا قال في نفسه.... مد يده بسرعة إلى السجل وقع وانسحب بسرعة إلى الحمام في جوار مكتب المدير..... تخلص من كمية البول الرهيبة المخزنة في مثانته شعر بارتياح كبير .... اغتسل ثم ذهب إلى مكتبه واخرج فرشة الاسنان والمعجون التي يحتفظ بها دائماً في أحد أدراج المكتب وعاد إلى الحمام مرة أخرى ...... على الأقل توجد مياه ساخنة.

مديره هذا نسخة تكاد تكون طبق الأصل من مدير مدرسته الابتدائية والاعدادية الاستاذ "الوافي" قصير القامة ممتلئ له كف غليظة لو ضرب بها قطعة من الخرسانة لتفتت إلى قطع صغيرة...... يذكر تماماً تلك الكف والعصى التي كانت تحملها كل صباح أمام المدرسة ...... كان عندما يتأخر في الصباح أيام الشتاء ولو لدقيقة أو اثنتين تنهال تلك العصى على يده المشققة من برد الصحراء.... وربما تنهال عليه مرات أخرى في نفس اليوم خصوصاً إذا تغيب أحد المدرسين ومر المدير قرب الفصل واستمع الى ضجيج الطلبة ..... عندها يعاقبهم جميعاً بدون رحمة.....

عجيب هذا التشابه بين مديره الآن والاستاذ "الوافي" يمتلئ قلبه بالخوف عند رؤية مديره الآن كما كان عند رؤية الاستاذ الوافي رحمه الله ..... ولكن هل حقاً يستحق الرحمة بعدما سببه لي من خوف لازلت أعاني منه حتى اليوم؟..... لولا الخوف من اقاويل الناس لذهبت لمستشفى الأمراض العقلية لعلاج مرض الخوف الساكن في داخلي..... هكذا حدث إمحمد نفسه.

دخل مكتبه دون أن يكلم أحداً من زملاءه في المكتب ..... كل منهم تائه في عالمه الخاص ..... لم تبدأ عمليات الخصام والمناقشات الحادة بينهم بعد خصوصاً فيما يتعلق بمن يتصدر الدوري ومن سيفوز هذا العام ....في العادة يترك وقت الخصام هذا إلى حين خروج المدير عند العاشرة والنصف وحتى عودته عند الساعة الثانية والنصف.

الآن كيف سيواجه صاحب المقهى ... فهو لم يدفع ثمن القهوة منذ بداية الشهر..... ولايملك إلا خمسة دنانير في جيبه ..... دينار للبنزين .... دينار ونصف للسجائر .... دينار لاجنحة الدجاج .... والباقي لمتطلبات الغذاء والعشاء اليوم وربما غداً ..... اليوم 23 من الشهر يعني عليه أن يستدين.... ولكن ممن؟

في الاثناء دخل الحاج "التليلي" عامل المقهى وضع أمامه قهوته وارفقها بابتسامة وكلمة تفضل لم يطالبه بشئ لم يقل له شئ .... لكنه عامله كبقية زملاءه .....ازداد خوفه فهذه ليست عادة الحاج "التليلي" ..... تشأم من يومه ......

أشعل سيجارته وسحب منها نفسا عميقاً ورشف رشفة واحدة من قهوته ... أكمل السيجارة ..... في العادة يدخن سيجارتين أو ثلاثة مع قهوته ...... عاود إلى قهوته ... وفجاءة سمع صوت مديره يناديه.....قفز من مكانه... ارتبك ارتعش وكأن الاستاذ "الوافي" يقف أمامه بعصاه...... هرول اليه مسرعاً ..... ووجده مبتسماً

تعاظم الخوف مليون مرة تقريباً ....... لم يرى مديره مبتسماً مرة واحدة في حياته ...... وادرك أن خطب ما حدث أو سيحدث ...... وقف أمام المدير وهو ينظر إلى اسفل ...... كل ما يدور في عقله هل قررت الدولة الاستغناء عني؟ سؤال واحد دون غيره ظل يتردد ..... فسياسات رئيس الوزراء الذي يملك مئات الملايين تنصب جميعها على هم وحيد أن يسمح لآليات السوق بالعمل حتى يتم تخصيص الموارد بشكل أمثل...... أما أن يموت الناس أو يعيش الناس فهذا أمر لايعنيه...... فقد انفصل رئيس الوزراء عن الواقع منذ زمن طويل ...... اصبح يتصور واقع مشوه غير الذي يعيشه الناس...... واشيع مؤخراً أن تكاليف زواج ابنته الكبرى بلغ مئات الالف من الدينارات.... وربما قاربت المليون..... عرس تحدثت عنه البلاد كلها وليس العاصمة فقط....

ألم يعلم سيادة صاحب المعالي أن اقتصاد السوق اخفق في سوق العقارات في الولايات المتحدة الامريكية؟ ومن ثم في سوق المال؟

تمنى إمحمد لو أن بإمكانه كتابة كل ذلك في تقرير وارساله إلى صاحب المعالي رئيس الوزراء وصاحب المعالي وزير الاقتصاد وهو ايضاً يملك مئات الملايين من الدولارات إن لم يكن البلايين...... دراسة إمحمد للاقتصاد كانت وبالاً عليه ....... ولم تزده إلا تعاسة في حياته ...... لكنه يخاف من أصحاب المعالي جميعاً ولن يكتب شيئاً قد يثير حفيظة مديره صاحب الكف الغليظة.......الذي يتحكم في راتبه القليل.......

سرق نظرة إلى مديره فوجده مبتسماً ..... ادرك أن القيامة قاربت ..... دقائق فقط تفصله عن يوم القيامة أدرك ذلك تعاظم الخوف مرات عديدة أخرى ورغم برودة الجو تصبب عرقاً بارداً غسل جسمه كله... اختلطت عليه الأمر ... لم يعد يعرف ما يفعل بيديه فجاءة صارت يديه مشكلة ... وضعها خلف ظهره ...إلى جانبه ... أمامه مرة أخرى ... ثم ظل يفركها ببعضها البعض .....مسح رأسه بيده اليمنى ثم جبهته من العرق ....صار يرفع يده ويخفضها بحركة آلية غريبة... وكأنه مصاب بمرض جديد اسمه حركة اليدين غير المتوقفة....

قال له المدير دون أن يرفع رأسه من المكتب:

ـ قرر السيد وكيل الوزارة أن يتم تعيين مساعداً لي ...... وانا لم أجد غيرك مطيع ويسمع الكلام .... وحاصل على درجة جامعية ..... من كل المجموعة .... لذلك اقترحت أن تكون أنت مساعدي وساعدي الايمن......سارفع الاقتراح إلى سعادة الوكيل اليوم ..... وإذا تكرم ووافق .... فستستلم مهام منصبك الجديد بداية الشهر....... ستكون ملزماً أن تغير هندامك وسأعطيك مكتباً أخر بمفردك ...... لكن من الآن اريدك أن تأتني بكل الاخبار عن الادارة ومايقوله الموظفون وغير الموظفون أنت عاقل وتفهم.....اريد أن أعرف حتى إذا مرت ذبابة من أمام الادارة أو بالقرب منها .....افتح اذنيك جيداً ....الاعتماد على الله وعليك.....

عرف إمحمد أنه مطب لايمكنه الخروج منه ..... يريدني أن اشتغل واشٍ له ولرؤساءه من بعده .... لن يتغير راتبي ..... كل الذي يتغير ساصبح مكروهاً من كل الموظفين والموظفات وسيزداد عقابي إذا لم ابلغه بكل شئ...... أين المفر....؟

لم يجب مديره بكلمة واحدة ظل صامتاً وازداد ارتباكه وخوفه ....لو رفض سيضاف إلى اولئك الذين تم الاستغناء عنهم .....لو قبل فإن مقداراً جديداً من الخوف سيضاف إلى كوم الخوف الذي يسكن داخله.....

فجاءه المدير :

ـ هل تقبل بالوظيفة الجديدة؟

استجمع اطراف شجاعته وقال:

ـ لو أمكن يا حضرة المدير أن تترك لي فرصة أفكر .... انت تعرف أن ظروفي صعبة ..وانني أحب عملي الحالي.....لو فقط ......

ـ لايمكن يا إمحمد عليك أن تقرر الآن ...... على كل حال اعتبرك موافق وسارفع الأمر إلى السيد وكيل الوزارة.......

لايعرف إمحمد ماذا حدث ولا كيف قهر الخوف لثلاثة ثوان من عمره .... لكنه أجاب المدير بسرعة:

ـ لا لا لاأستطيع فظروفي العائلية صعبة للغاية.

ـ هكي صار ..... أجابه بنبرة حادة ... وأضاف اذهب إلى مكتبك وكلملي مختار....

صار طعم القهوة مراً ..... اكملها كيفما أكملها .... ازداد الخوف ..... حدث نفسه... غداً سأكون بدون وظيفة...

سار اليوم كبقية أيام العمل خرج المدير عند العاشرة والنصف ...... وبدأ الخصام حول دوري الكرة .... ثم عاد المدير عند الساعة الثانية  والنصف..... لاأحد يعرف أن يذهب أو ماذا يفعل .... لكن الاعتقاد السائد أنه يشتغل مع شركة أجنبية ...... أو أنه يقوم بعمل ما مشاركة والسيد الوكيل أو ريما الوزير نفسه.

خرج من الدوام إلى "نعناعة" قادها والخوف يملاءه من رئيس العرفاء إلى محطة الوقود القريبة ..... لكن لسوء حظه كانت مقفلة مؤقتاً أو حتى انتهاء تعبئة خزانات المحطة بالوقود والذي عادة ما يستغرق حوالي 40 دقيقة..... لم يعد أمامه إلا الانتظار..... في كل العالم يقومون بهذه العمليات في الليل أما هنا ففي ساعة خروج الموظفون من أعمالهم أو في أكثر ساعات النهار الأخرى ازدحاماً.....!!!!!

ترك "نعناعة" قرب المحطة وسار علي قديمه لشراء أجنحة الدجاج وبعض المواد الغذائية الأخرى.....رغم خوفه الشديد من أن تسرق في عز النهار ...... عادة ما تسرق السيارات "التعبانة" والقديمة مثل سيارته ....أما السيارات الفخمة فيحرس فيها ربي.... ولا أحد من السارقين يتجراء علي الاقتراب منها.....

فتحت محطة البنزين ..... عاد دفع السيارة إلى داخل المحطة .... تزود بالوقود دينار واحد فقط.... وعاد إلى شبه بيته.... فهو بيت قديم اقتسم منه غرفة وبنى لنفسه حمام مجاور .... يستخدم نفس الحجرة كمطبخ.....بعد أن قام بتركيب حوض وصنبور مياه في جزء منها...... ترك بقية البيت لزوجة ابيه وفتح باباً على الشارع الجانبي....... فلتنعم تلك العاهرة بكل ما ترك لها المرحوم والده......

يعرف تماماً من تكون ..... وعلاقتها بوالده قبل وفاة أمه ...... وكيف كانت تضع علامة أمام كوخ الصفيح الذي كانت تسكنه هي وزوجها البوليس عندما يعمل زوجها ليلاً ...... وكيف كان أبوه يجلس أمام كوخهم إلى أخر الليل ينتظر حتى ينام الناس ويذهب إليها..... تبعه ذات مرة وعرف العلاقة الآثمة التي تربطهما...... كانت أمه مريضة وربما كانت تعلم بما يجري...... لكنها لم تقل شيئاً على الاطلاق....

ماتت أمه ..... وتطلقت تلك العاهرة من رجل البوليس ...... تزوجها ابيه .... ازيلت الاكواخ وحصل ابيه على بيت من مشاريع الاسكان ..... كتبه باسم زوجته الجديدة من البداية .....

لاتعرف زوجة ابيه لماذا يكرهها إمحمد ...... لم يقل لها يوماً أنه يعرف عن علاقتها بأبيه قبل أن يتزوج بها ... يعرف أيضاً عن الرجال الذين يزورونها في غياب زوجها البوليس....... ففي عالم الاكواخ توجد ملايين القصص التي يحب كل الناس نسيانها.....

لا أحد يعرف لماذا عزف إمحمد عن الزواج ...... ليس لضيق الحال فقط ولكن لفقدان الثقة ....... نعم فقدان الثقة .... إنه يخاف من جميع النساء......فهو لايكرهها هي فقط بل يكره امه ايضاً بسببها جاء إلى هذه الدنيا .......... كان دائماً يتساءل لماذا ينجب الفقراء الاطفال......يشكك في أمور كثيرة لايريد التحدث عنها لاأحد.....

في الليل ..... أوى إمحمد إلى فراشه ليسهر خوفاً من الكابوس الذي سيعاوده بكل تفاصيله الدقيقة..... مسوخ بشرية في شكل جرذان ..... لها وجوه قطط سمان وأنياب حادة تنهش جسده النحيل ولاتقف.....تأخذ من تستطيع من لحمه وشحمه ....تنقل الغنيمة إلى مسوخ أخرى تقف بمكان ليس ببعيد... يستطيع أن يراها ...... هي أيضاً مسوخ بشرية أكثرها قصير القامة لها أجساد جرذان ضخمة ووجوه قطط سمان......... تستلم الغنيمة ترد شيئاً قليلاً منها للمسوخ التي تعضه وتحمل الباقي وتذهب لتعود في الصباح والمساء والليل تنهش في جسد إمحمد دون توقف.......

كتبت في اغسطس 2010م