الخوف (3)

احمد مجمد جلالة

أمل امرأة ليست كبقية النساء لاتجد الفرصة لكي تتحدث اليها فهي دائماً مشغولة بالحديث في التلفون ..... تمتلك نقالين ... وإذا لم تكن تتحدث في إحداهما فهي بالتأكيد تستخدم الخط الأرضي.... وفي اللحظات القليلة التي يتصادف أنها بين مكالمتين تستطيع أن تتحدث اليها لوقت قصير ..... والويل لك أيها الرجل حين تقف في حضرتها ..... إذ أنها تمتلك القدرة علــى أن تتسلل إلى قلبك خلسة وفـي وقت قصير جداً عندما تريد ذلك ... وقليل جداً ماتفعل..... تحرك طرف فمها الايمن عندما تحدثك إلى اليمين قليلاً وتسقط الشفة السفلى من نفس الناحية .... فتتساقط الكلمات من ثغرها متثاقلة بصوت شجي يسحر الالبات ..... ويرافقه ميل رأسها في نفس الاتجاه وإلى أسفل وكأن طول رقبتها هو الذي يدفعها لذلك....... وبين الفينة والأخرى تختلس النظر اليك من عينين صافيتين هما السحر ذاته ....فقط  لتتأكد من فعل سحرها عليك..... ولتتأكد ايضاً من أنها تتربع في وسط قلبك ..... هكذا دون مقدمات... ولتضيف قليلاً من الملح إلى جرحك النازف عادة ما تحرك خصلة من شعرها الاسود المائل إلى الحمرة تتركها خارج غطاء الرأس في الجانب الايسر من الجبهة ..... خصلة واحدة فقط لتعطي خيالك الفرصة لكي يسبح في عالم أخر ترى فيه موجات شعرها الحريري الطويل تنحدر إلى جانب قوامها الممشوق ..... وقد تحلم وانت تقف امامها والعرق يتصبب من جبينك انك تضمها إلى صدرك بحنان صادق....

ويمكن لها ايضاً ودون سابق إنذار وفي وقت قصير جداً أن تتحول إلى انثى نمر تتربص بالواقف أمامها ...... لكنها تظل جذابة ..... جمال متوحش .....يجذب إمحمد اليه بقوة لايقدر على مقاومته....... رغم علمه أنها متزوجة ولها بنات......ورغم إنكاره لحب النساء ورغم عدم ثقته فيهن ....... إلا أنه يقف ضعيفاً امام أمل .... يخافها ويخاف منها ... لكنه  يحلم بها في الليل والنهار وفي حالات النوم واليقظة........ يحلم بها كأنها ابنته تارة ..... وكأنها زوجته تارة أخرى ... يحلم بها أماً حنوناً بعض الأحيان ...... وفي أحيان اخرى معشوقة ...... يرى فيها كل ما يمكن أن تكونه المرأة ....... ويمني نفسه في أن يكون زوجها بعد أن تطلق!!!! يحسد ذلك الوغد الذي تزوجها وهو لايعرفه ولم يره إلا مرة واحدة أو اثنين على مايذكر.... فهو يدرك أن المرأة تمتلك القدرة أن تتلاعب بالرجل ... فهي تحس بقدرتها الخارقة على معرفة ما يريده في لحظة معينة مرة يحتاج اليها كعمشوقة ....ومرة كزوجة ..... ومرة أخرى عندما تحس بحسها الانثوي المرهف أنه في حاجة إلى حنان أم تتقمص شخصية الأم .... وتضم رأسه على صدرها فقط لتعطيه تلك الجرعة من الحنان التي يحتاجها في تلك اللحظة ....... وإذا ما أحست أنه في شوق للعب مع طفلة تتقمص شخصية ابنته الصغيرة وتلاعبه......

 وفي كل الاحوال فإنه رغم محاولاته الدائمة على تفاديها في المبنى الذي يضمهما اثناء الدوام الرسمي ..... إلا انه لايعرف لماذا يجد نفسه دائماً امامها ... في مكتبها .... أو في احد الممرات .... ولايعرف لماذا يحاول أن يختلق معها الاحاديث كل مرة يقابلها فيها رغم الوعود التي يقطعها على نفسه كل مرة في أنه لن يخاطبها......

ما لايراه أمحمد في أمل الخوف الذي يسكنها والذي لايضاهيه إلا الخوف الذي يسكنه هو ويعيش داخله ... لو تمكن العلماء من اختراع جهاز لقياس مستويات الخوف في الانسان لحصل أمحمد من الذكور وحصلت أمل من الاناث على أعلى المعدلات ....... أمل ايضاً ضحية الخوف في مجتمع الخوف......لاتذكر متى ولكن منذ أن وعت الدنيا .... كانت امها وكل النساء يحذرنها من الذكور المتوحشين المتربصين بها في كل ركن ومكان والذين من الممكن ان يسلبوها عفتها في أي لحظة وهي لا تدري... عليها دائماً أن تحذر الرجل  ... ومع الزمن تحول هذا الحذر إلى خوف لازمها طول حياتها .....ظل هذا الخوف يكبر حتى اليوم..... وحتى بعد أن تزوجت فهي تخاف من الذكور جميعاً...حتى الاطفال منهم...ولاتعرف لماذا..

كلما تقدم بها العمر زاد خوفها من أن يطلقها زوجها .. من أن يجد فتاة أخرى اصغر سناً وأكثر حسناً وقادرة على أن تنجب له ابن ذكر ..... خصوصاً وانها لم تنجب له إلا بنتين فقط ..... والآن العمر تجاوز الاربعين والحياة بدأت تتخذ منحى أخر خطير بالنسبة لها ..... لم تعد قادرة على الانجاب بعد كل المحاولات الطبية والسفر إلى تونس والاردن وسويسرا وبريطانيا......

تعاني أمل من مرض اخر الشك في كل شئ ..... كل الناس تكيد لها ..... وكل الناس ضدها ... تتوهم في كثير من الأحيان قصص غريبة عجيبة ....... لاتتحدث لاأحد عن معظمها ... ولاتتصرف وفقها إلا في مرات قليلة جداً وتندم على ذلك ..... لكن قضية الشك هذه تؤلمها كثيراً .......

أحد الرجال الذي لم تستطع التأثير فيه أو عليه مديرها ..... هذا الصندوق العجيب الذي يمثل الخوف بكل معانية .... تخافه أكثر من اي شئ اخر ...... كانت قريبة منه في البداية ، لكنه دائماً وضع حاجزاً بينهما ..... ارتكبت بعض الهفوات الصغيرة حولها إلى مشاكل وازمات كبيرة .... ثم ابعدها من جانب مكتبه .... واصبح لايطيق رؤيتها ........ كثرت التأويلات من قبل الموظفين ..... ودارت احاديث طويلة حول اسباب ابعادها عنه ....... الكثير من زملاءها لايعرفون انها تخافهم ايضاً ... فهي دائماً تحاول أن تظهر بمظهر القوة امامهم ..

تخاف أمل أن يكتشف زوجها يوماً من الايام أنها عندما كانت مراهقة صغيرة السن كونت علاقة بريئة مع ابن الجيران وتبادلت معه الكثير من الرسائل ...... ماذا لو احتفظ ابن الجيران هذا بكل رسائلها أو بعضها حتى اليوم ...... رسالة واحدة من هذه الرسائل تكفي .... ماذا لو تعرف على زوجها بالصدفة وقدم له رسالة أو اثنين من رسائل كثيرة بعثتها له؟ ...... وماذا عن كل العلاقات الاخرى التي تكونت بعد ذلك وهي في سن صغيرة وقبل أن تتعرف عليه في الجامعة .... وقتها كان أهم ما في حياتها المسلسلات التلفزيونية العاطفية التي اثرت فيها بشكل مباشر وكبير ...... كانت تبكي عندما يترك البطل محبوبته أو ينفصل عنها لاسباب قاهرة .... كانت تتألم فعلاً للمأسي في مسلسلات الراديو الحزينة وتبكي بحرقة لقصص الحب الفاشلة ..وتفرح بشكل جنوني عندما تنتهي القصة بالزواج... صار همها الزواج من ابطال كثر خلقتهم في خيالها..... وحتى اليوم تدمن أمل المسلسلات التلفزيونية الحزينة خصوصاً الخليجية منها المليئة بالدموع والنكد...!!!!  

في كثير من الاحيان تقفز خوفاً عندما يناديها زوجها ويخال لها أنه اكتشف شيئاً من نبرة صوته .....اوعندما يعود إلى البيت في وقت مبكر غير الذي اعتاد العودة فيه ..... في تلك اللحظات تتزايد دقات قلبها خوفاً مما سيقوله زوجها..... وحتى في الليل عندما تأوي إلى الفراش تنكمش بشكل غريب في الفراش في أنتظار أن ينام خوفاً من أن يكون قد اكتشف شيئاً وسيحدثها عنه قبل النوم ..... فعادة زوجها أنه يطرح الكثير من المواضيع التي يعتبرها هامة عندما يأوي إلى الفراش ليلاً....... في بعض الاحيان التي يتعاظم عندها الشك في أنه اكتشف امراً مخيفاً تتهرب بالبقاء في حجرة ابنتيها لمدة أطول حتى تتأكد من أنه نام..... ثم تتسلل إلى الفراش لكنها تخاف أن يفسر ذلك بشكل اخر فتندم على مافعلت ..... وتمتنع عن فعل ذلك فترة من الزمن..

ترتاح أمل أول الأمر عندما ينام زوجها امام التلفزيون خصوصاً عندما يعود متعباً من العمل ..... تطفئ التلفزيون وتتسلل إلى حجرة النوم وحيدة ..... لكنها بعد أن تتمدد في الفراش تبدأ في التفكير إذ من الممكن أن لايكون زوجها تعب بهذا القدر ... وربما هو هجر لها في المضاجع ..... أو ربما راقته أمرأة اخرى في عمله .... وتظل على هذه الحال عادة إلى قرب أذان الفجر حين تنام من شدة التعب... وتستيقظ متأخرة فتسرع محاولة أن تجهز طعام الافطار ومساعدة البنتين في الذهاب للمدرسة ثم تستعد على عجل هي نفسها للذهاب إلى العمل .......

تخاف أمل من أن تصاب بسرطان الثدي ..... كل يوم عندما تستحم تتفقد صدرها بدقة متناهية لتتأكد من عدم وجود شئ غير طبيعي ، فالاطباء يقولون أن المرأة بعد أن تتجاوز الاربعين عليها أن تهتم كثيراً وتتحس ثدييها خوفاً من سرطان الثدي خصوصاً وأن أحد صديقاتها التي تصغرها عمراً قد ماتت بسرطان الثدي رغم الجراحة والعلاجات الاشعاعية والكيميائية ....... ليس هذا الخوف الصحي الوحيد ..... فهي تخاف أن تصاب بسرطان الرحم ....... وأن تفقد الرحم كله ..... عندها تعتقد أنها ستصبح اشلاء إمرأة ... وأن ترك زوجها لها سيصبح مسألة وقت لاغير....... ربما وقف جانبها في البداية لكنها تعتقد أنه سيتزوج إمرأة أخرى بعد ذلك ......

تقود امل السيارة بسرعة ..... وبنوع من التهور كما يبدوا للبعض .... لكن كل هذا في الواقع يخفي خوفها من حوادث المرور التي من الممكن أن تشوه وجهها أو تفقد أحد اطرافها ... كابوس ترى فيه تشوه وجهها الجميل كان يراودها منذ أن كانت صغيرة  .......ترى فيه انها صارت امرأة قبيحة سجنها أهلها في أحد حجرات البيت حياءً من أن يراها الناس ...... حلم كان يروادها منذ أن كانت صغيرة في السن وإلى اليوم ......

وبنفس الكيفية تدعى أمل الشجاعة وتبقى كثيراً من الاحيان في البيت منفردة ..... لكنها في الواقع تخاف بالبقاء وحيدة في شقتها ....... وتعاني الأمرين ........ فكل حركة وكل صوت تتسبب في قفزها وتسارع دقات قلبها...... ونتيجة لهذا الخوف تصر على العيش في شقة داخل عمارة وعلى عدم شراء بيت أو بناء بيت مستقل رغم انها وزوجها يمتلكان القدرة على ذلك ......ورغم إلحاح زوجها على شراء قطعة ارض وبناء فيلا صغيرة في البداية ، إلا انه رضخ للامر الواقع بعد ذلك وقبل بحججها غير المعقولة ......

مايريح أمل البكاء ....... فهي تبكي بعد أن ينام زوجها بالليل ..... وتبكي كلما وجدت نفسها وحيدة وبعيدة عن الناس ..... في بعض الاحيان تقود سيارتها إلى مكان على البحر مقابل جهة مكتظة بالناس ..... تقف هناك مبتعدة مسافة مناسبة عن الناس وتبكي لوقت من الزمن ثم تجفف دموعها وتعود إلى البيت..... أم ام

 

ما لايدركه امحمد أن امل تخاف ان تقع في حب رجل اخر غير زوجها ..... ولذلك فهي لاتثق في الرجال مثلما لايثق امحمد في النساء ..... وهي ايضاً مثل امحمد هربت إلى التدين بحثاً عن الامان ...... رغم انها في بعض الاحيان تشكك في بعض مايقوله رجال الدين وليس الدين نفسه ...... تتفادى الاستماع لرجال الدين في التلفزيون حتى لايثيروا فيها هذه الشكوك ..... تحاول أن يكون تدينها بسيطاً قدر الامكان ..... ذهبت إلى الحج وصارت اكثر تديناً .... لكنها لازالت تخاف من كل شئ .... من البوليس .... من مديرها في العمل ..... من المستقبل ...... من الرجل اياً كان ومن المرأة ايضاً......

علاقة البوليس والموظف العام والمدير والمدرس والطبيب في بلادنا علاقة عداء للمواطن ..... وكل من هولاء يمتلك القوة والقدرة على الحاق الضرر به ، لذلك فإن امحمد وأمل وغيرهم كثيرفي مجتمعنا يعيشون حالة الخوف الدائم ......

كتبت اواخر عام 2010م