الخوف (1)

 أحمد محمد جلالة

الخوف ذلك الشئ الغريب الذي يملاء المكان .... لاتعرف هل يعيش خارجك أم يسكن داخلك... تسمعه .... تراه ..... تكاد تتذوقه وتشم رائحته... تحس به .... يتحرك من داخلك بقوة فيرتعش قلبك ويديك .... وكل خلية في جسمك يتدفق منها الخوف وكأنه نهر ....

الخوف ببساطة أثقل الاعباء التي تحملها فوق ظهرك كل يوم من أيام حياتك ..... ولاتعرف هل ستستمر في حمله بعد الممات....

الخوف ولد معنا وتربى معنا وفينا.... من اصبع الأب المهدد ومن صرخات الأم إلى (الغول) الذي يظهر بعد المغرب ....الى (شيطان القايلة) .... إلى عصا الفقيه التي لاتعرف الرحمة وأساليب تعذيبه القديمة والمبتكرة ومن بينها (الفلقة) والتفنن في تنفيذها ..... إلى عصا المدرس القاسية  ثم التطور التكنولوجي العظيم بعد ذلك الذي توصل فيه المدرس إلى استخدام حبل هوائي التلفزيون بديلاً عن العصى ...... إلى الخوف من البوليس خصوصاً بوليس المرور الذي يتربص بك في كل جانب ويسعى جهده لكي يجد سبباً واحداً واهياً يحرر على أساسه مخالفة مرور تزيد من أعباءك المالية التي لاتنتهي وتكاد تجزم أنه قضى الليل ساهراً يحك رأسه إلى أن اصابه الصلع وغزى رأسه الشيب في البحث عن أساليب خداعك حتى يستطيع أن يتهمك بمخالفة قوانين وقواعد المرور لا لشئ ولكن لان سيارتك قديمة وليست من السيارات الفارهة ولا حتى المحترمة .....إلى الخوف من كل موظف عمومي لان كل واحد منهم ببساطة يفترض أنك مجرم سارق لا أخلاق له مادمت من البسطاء والفقراء والمساكين ومن الذين لاوساطة لديهم من أي نوع.... كل واحد من هولاء يفعل ذلك لا لقناعة أو كفاءة في تأدية عمل ولكن خوفاً من مديره!!! ... الخوف يحركنا جميعاً في مجتمعنا السعيد.....

الخوف من مديرك في العمل والخوف من أن تفقد وظيفتك غداً..... الخوف من الشباب المنحرف في شوارع المدينة الخلفية وحتى الأمامية ...... الخوف من أن تمرض غداً ولاتجد من يعالجك لعدم كفاءة النظام الصحي ..... الخوف من أن لاتجد ثمن الدواء إن تمكنت من إيجاد الطبيب المعالج ...... ومعمل التحاليل المناسب ..... وطاقم التمريض القادر على تمريضك .... لكن من الممكن أن تعيش بدون تمريض على كل حال......

الخوف الأكبر من المرأة .... ذلك المخلوق العجيب..... علمونا في البداية أنها الأم الحنون رمز العفة والطهارة وحفظنا اناشيد تمجد الأم .... وقبلنا بذلك رغم أن ممارساتها الفعلية كانت الصراخ والسب والدعاء إلى الله تعالى أن (يكسر ظهورنا) ...... وربما استجاب الله لدعاءها فتكاد ظهورنا اليوم أن تنكسر من ثفل الأحمال التي نتحرك بها ونأوي إلى الفراش كل ليلة وهي فوق ظهورنا البائسة واجسادنا النحيلة تمنع النوم وتزيد من الآلام.

قدمنا لها الهدايا في عيد الأم ومثلنا بكفاءة عالية دور الأبن المحب لامه ......

لكن الصورة سرعان ما إنقلبت ..... ما أن كبرنا حتى قالوا لنا أن المرأة مصدر الغواية ...قالوا لنا انها كلها عورة صوتاً وصورة ...إنها مصدر العار والشهوة المحرمة .... إنها صاحبة الخطيئة الأولى  المرأة سبب الضعف بل هي الضعف ذاته ..... انها أداة المكائد والرأي غير السديد في أحسن الأحوال .... انها..... إنها......إنها أكثر من ذلك......

من هنا نشأت نظرة إمحمد للحياة وصار لها معنى واحد الخوف....... ولهذه الاسباب مجتمعة لم يتزوج إمحمد بل آثر العزوبية رغم سنه المتقدمة....... كم كان ابو العلاء صادقاً في قوله هذا ماجناه أبي علي وماجنيت على احد..... كثيراً ما تسآل إمحمد لو كان له الخيار في أن يأتي لهذه الحياة ربما كانت إجابته بالنفي ..... واختار أن لايكون بعد كل ما خبره ..... خاف إمحمد من أن تخونه زوجته بعد ماخبره وهو صغير عن خيانات النساء والرجال وماشاهده بعينه..... وخوفاً من أن ينجب اطفالاً لايضمن لهم التعليم المناسب والعناية الصحية المقبولة وحتى توفير الحد الأدنى من الغذاء ......

لقد أحب إمحمد نساء كثيرات في حياته ولازال ....يؤثر أن يحب على أن يتزوج ... الحب شئ جميل من الممكن أن تحب إمرأة متزوجة أن تحلم قدر ما تشاء وتصير هي من تريد وكيفما تريد في الحلم بعيداً عن أرض الواقع ..... صار لديه قناعة أن الزواج بغرض الانجاب والحفاظ على النوع ...... وهناك الكثير من الناس يقومون بذلك في العالم ولن ينقرض الجنس البشري إن لم يتزوج هو بالذات ....... أما الحب فشئ أخر ... حاول إقناع الأخرين أنه من غير الضروري أن يحب الرجل زوجته بل أن يرضى بها ...... وبإمكانه أن يحب من يشاء ويحلم بما يشاء .... لاسقف على الحلم والخيال ..... بإمكانه أن يجعل من محبوبته ملاكاً طاهراً ...... لايمكن لها أن تخونه ..... ولاحاجة حتى لممارسة الجنس معها إنها فقط حبيبة........وهذا يكفي.

في مجتمعنا السعيد الخوف من المجتمع امر مفروض على امحمد وغيره من الناس ..... عليك أن تلتزم بكل ما ورثته عن الاولين حتى وإن كان لايتوافق مع العصر .... وفي بعض الحالات لايتوافق مع العقل والمنطق .... لكن عليك أن تطيع وتصمت ليس من حقك أن تتكلم أو تنتقد أو ترفض...... هذا يعني أنك لابد أن تلتزم وحسب ..... عندما يمرض أحد من القبيلة حتى وإن اساء اليك الف مرة حتى وإن كنت لاتقبل حضوره بقربك عليك تحمل العناء والذهاب لزيارته بالمستشفي ...... عندما يتوفى أحد في القرية البعيدة عليك أن تسافر للعزاء حتى ولو كنت لاتملك ثمن البنزين ..... أو لاتستطيع السفر لظروف عمل قاهرة أو لاسباب عائلية أخرى.... لابد أن تبين وجهك في العديد من المناسبات ..... فقط تبين وجهك .... يذكر أن صديقه صالح من قرية ليست بالبعيدة من المدينة فقد طفله الرضيع لانه سافر وتركه مريضاً فقط ليعزي وفاة أحد العجائز بالقرية ..... وحيث أن زوجته لم تكن قادرة على التصرف فقد ارتفعت حرارة الطفل فجاءة بالليل ومات ..... عاد بعد أن ادى الواجب واستسلم للامر الواقع على أنه قضاء وقدر...... يعرف امحمد الكثير من الناس الذين توفوا في حوادث سيارات اثناء سفرهم للعزاء في فقيد في منطقة أخرى...... والمبررات دائماً جاهزة "الساعة حضرت" ...... "الله غالب"..... لم يعي هولاء الناس أن قتل النفس جزاءه القتل ..... لم يدرك هولاء أن الله عز وجل وهبنا عقلاً نستخدمه لحماية أنفسنا وغيرنا من الناس وللحفاظ على رفاهية الجنس البشري .... لم يدرك هولاء أنه لايجب أن نلقي بانفسنا إلى التهلكة.... كل الذي يهم الالتزام بالعادات والتقاليد......

الخوف لايفارق امحمد طوال يومه وطوال ليله ........ في الليل الكوابيس تقلق منامه ...... والخوف في الشتاء من أن تمطر السماء "وتقطر" أي يتسرب الماء من السقف في حجرته مما يبقيه ساعات طويلة من الليل في محاولة اخراج الماء.......

لا يستطيع امحمد أن يقول ما يجول بخاطره فقد يؤدي ذلك إلى التهلكة ...... الكثير من المتطوعين يستطيعون تأويل الاحاديث وفهمها بطريقة لايمكن له أن يتوقعها هو نفسه ..... خصوصاً الصالحين زميل العمل ذلك الرجل الذي يدعى دائماً أنه رجل مهم قريب من الدوائر العليا في الدولة...... والذي يقترب دائماً من ابواب المكاتب محاولاً الاستماع للحديث بتقريب أذنه اليسرى ..... وإلى اليوم لايعرف امحمد لماذا الاذن اليسرى.... ناهيك عن رمضان ووليد وعلى وبقية الشلة ممن تحوم الشكوك حول وظائفهم الحقيقية الأخرى غير الوظائف التي يعملون بها مع امحمد في المصلحة..... لايمكن أن يسرد امحمد امام احد هولاء احلامه اثناء المنام أو كوابيسه المخيفة ....... فلهم مقدرة غير عادية على تأويل الاحلام .. وتأويلهم  دائماً تكون نتيجته مثل مصير الذي رأى نفسه يحمل فوق رأسه طبقاً تأكل الطير منه ......وفي أحسن الأحوال تكون النتيجة نسيانه في قبو مظلم بقية حياته ......

كل احلام امحمد تدور حول ذلك السجن الرهيب الذي رأه في احد الافلام الامريكية على أنه في تركيا في فيلم بعنوان "قطار الشرق" القى القبض فيه على امريكي حاول ادخال مخدرات إلى تركيا وسجن ........ تقريباً كل ليلة يرى في المنام أن احد من زملاءه في العمل استطاع تأويل احد احلامه والقى به في ذلك السجن التركي تحديداً ....

وربما كان هذا احد اسباب الخوف من السفر والاكتشاف ....... لم يسافر امحمد إلا لعدد قليل من الدول ..... وفي كل مرة لايجتاز الحدود خروجاً أو دخولاً إلا والخوف من أن يتم القاء القبض عليه لتشابه في الاسماء أو لاسباب أخرى لايعرفها يملاء قلبه ....... وترتجف يداه ويتعرق حتى في ايام الشتاء ......

امحمد يخاف كل شئ جديد ..... بما في ذلك الأكل والتكنولوجيا ...... لايمكن له أن يتقبل الجديد ..... "اللي تعرفه خير من اللي ماتعرفاش" ......

يعيش امحمد حياة رتيبة ...... تتكرر بشكل ممل

يذكر جيداً أن احد كبار السن قال له ذات مرة :

"نحن نعيش يوم واحد طوال حياتنا ...... كل الايام نسخة واحدة تتكرر بشكل ممل ....."

هذا هو امحمد شأنه شأن بقية الناس في مجتمعنا يلازمه الخوف ويعيش فيه وبه ومعه وعليه.......

كتبت هذه القصة في بدايات عام 2010م.